فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (40):

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}
{قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل: {قَالَ رَبّ} إلخ، وخاطب عليه السلام ربه سبحناه ولم يخاطب الملك المنادي طرحًا للوسائط مبالغة في التضرع وجدًا في التبتل، و{إِنّى} عنى كيف، أو من أين، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها {غُلاَمٌ} و{إِنّى} واللام متعلقان بها، ويجوز أن تكون ناقصة، و{لِى} متعلق حذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة، وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما: {إِنّى} لأنها عنى كيف، أو من أين والثاني: أن الخبر الجار، و{إِنّى} منصوب على الظرفية، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} [مريم: 7].
{وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر في، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعًا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب. روي عن ابن عباس أنه كان له عليه السلام حين بشر بالولد مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وقيل: كان له من العمر تسع وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل خمس وثمانون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل سبعون، وقيل: ستون {وامرأتى عَاقِرٌ} جملة حالية أيضًا إما من ياء {لِى} أو ياء {بَلَغَنِي} والعاقر العقيم التي لا تلد من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث قاله أبو البقاء وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئًا فشيئًا ولم يكن وصفًا لازمًا {وكانت} الثانية اسمية لأن كونها عاقرًا وصف لازم لها وليس أمرًا طارئًا عليها، وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه السلام الشواهد السالفة استفسارًا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال قاله الحسن وقيل: اشتبه عليه الأمر أيعطي الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال، وقيل: قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟ا تعجبا من جوده، وقيل: إن الملائكة لما بشرته بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني؛ أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال، وقيل: إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد باعطائه را تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب، وقيل: قال ذلك استبعادًا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابًا ولما أجيب كان شيخًا بناءًا على ما قيل: إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو ستين سنة كما حكي عن سفيان بن عيينة وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد، وأبعد منها ما نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال: إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه فقال: رب أنى يكون لي ولد وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال: أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم ناداني ملائكة ربي قال: بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءاك فقال: رب أنى يكون لي إلخ، واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه، وأما فيما يتعلق صالح الدنيا والولد أشبه شيء بها فرا لم يتأكد ذلك بالمعجز، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال، وأنت تعلم أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية. وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لاسيما وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال: إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى.
{قَالَ} أي الرب، والجملة استئناف على طرز ما مر {كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، والإشارة لذلك المصدر، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره، ويحتمل الكلام أوجهًا أخر.
الأول: أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنًا مثل ذلك، الثاني: أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم، و{الله} مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى، وتكون جملة {يَفْعَلُ مَا يَشَاء} بيانًا لذلك الشأن المبهم، الثالث: أن يكون {كذلك} في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أي: الأمر كذلك وتكون جملة {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} بيانًا أيضًا،.
الرابع: أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام كأنه قال: رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له: كما أنت يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلًا لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل رومًا للتعظيم.

.تفسير الآية رقم (41):

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
{قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالًا للسرور قاله الحسن، وقيل ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورًا معتادًا، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفًا، والجعل إما عنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما: {ءايَةً}، وثانيما: {لِى} والتقديم لأنه المسوغ لكون {ءايَةً} مبتدأ عند الانحلال، وإما عنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو {ءايَةً} و{لِى} حينئذ في محل نصب على الحال من {ءايَةً} لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة ويجوز أن يكون متعلقًا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده.
{قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ الناس} أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم: إنه اختياري، والمعنى آيتك أن تصير مأمورًا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدًا وإلى ذلك ذهب عطاء وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى: {ثلاثة أَيَّامٍ} أي متوالية، وقال بعضهم المراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة [مريم: 10] {ثلاث لَيَالٍ} والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر {ثلاث أَيَّامٍ} منها وأخرى على {ثلاث لَيَالٍ} وجعل ما لم يذكر في كل تبعًا لما ذكر، قيل: وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه، واعترض بأن آية الليالي متقدمة نزولًا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها آية الأيام مدنية، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلًا ويكون اليوم تبعًا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.
فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءًا لحق النعمة كأنه قيل له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام لم تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا نفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب حسنات الأبرار سيآت المقربين ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول، ومذهب قتادة لا آمن على الأقدام الضعيفة قتادة {إِلاَّ رَمْزًا} أي إيماءًا وأصله التحرك يقال: ارتمز أي تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال: الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
ما في السماء من الرحمن مرتمز ** إلا إليه وما في الأرض من وزر

وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين، وقيل: الكتابة على الأرض، وقيل: الإشارة بالمسبحة، وقيل: الصوت الخفي وقيل: كل ما أوجب اضطرابًا في الفهم كان رمزًا وهو استثناء منقطع بناءًا على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون كلام وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه وجوز أن يكون متصلًا بناءًا على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلًا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله ثل ذلك مما يجعله متصلًا ولا قائل به، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقًا وادعى أن {رَمْزًا} مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض، والأصل أن لا تكلم الناس إلا برمز، فالعامل الذي قبل {إِلا} مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت {إِلا} وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو ما لقيت إلا زيدًا لقيت زيدًا، وفي ما خرج إلا زيد خرج زيد، وكذا لو قلت آيتك أن تكلم الناس رمزًا استقام وليس كذلك الاستثناء، فلو قلت: ليس القوم في الدار إلا زيدًا أو إلا زيد ثم حذفت النفي وإلا فقلت: القوم في الدار زيدًا، أو زيد لم يستقم، فكذا المنقطع نحو ما خرج القوم إلا حمارًا لو قلت: خرج القوم حمارًا لم يستقم قاله السفاقسي، وقرأ يحيى بن وثاب {إِلاَّ رَمْزًا} بضمتين جمع رموز كرسول ورسل.
وقرئ {ورمزًا} بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين. ومثله قول عنترة:
متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا

وجوز أبو البقاء أن يكون {إِلاَّ رَمْزًا} على قراءة الضم مصدرًا، وجعله مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر، وعليه لا يختلف إعرابه فافهم.
{واذكر رَّبَّكَ} أي في أيام الحبسة شكرًا لتلك النعمة كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية، وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرًا للنعمة مطلقًا لا في خصوص تلك الأيام، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه، والمنساق إلى الذهن هو الأول، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها، واستشكل العطف من وجهين: الأول عطف الإنشاء على الإخبار، والثاني: عطف المؤكد على المؤكد، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر، وقيل: لا يبعد أن يجعل الأمر عنى الخبر عطفًا على {لا تكلم} فيكون في تقدير: أن لا تكلم وتذكر ربك، ولا يخفى ما فيه {كَثِيرًا} صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرًا كثيرًا وزمانًا كثيرًا {وَسَبّحْ بالعشى} وهو من الزوال إلى الغروب قاله مجاهد وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل {والإبكار} أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى، وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة كذل قيل: وهو مبني على أن {العشى} جمع عشية الوقت المخصوص، وإليه ذهب أبو البقاء، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضًا على فعيل لا جمع. وإليه يشير كلام الجوهري فافهم؛ وقرئ {بالعشى والإبكار} بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظًا ومعنى وهو نادر الاستعمال قيل: والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقيل: الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر، وأل في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها والجار والمجرور متعلق بما عنده، وليس من باب التنازع في المشهور، وجوزه بعضهم فيكون الأمر بالذكر مقيدًا بهذين الوقتين أيضًا، وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار.
وهذا ومن باب البطون: في الآيات أن زكريا عليه السلام كان شيخًا هما وكان مرشدًا للناس فلما رأى ما رأى أي تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدًا حقيقيًا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال: {رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} [آل عمران: 38] أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفرذة عن إراداتها مقدسة من شهواتها {فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ} على ساق الخدمة {يُصَلّى فِي المحراب} وهو محل المراقبة ومحاربة النفس {أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة {مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة {وَسَيّدًا} وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق، وقال الصادق: هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا؛ وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين طلبًا لربه، وقال ابن عطاء: هو المتحقق بحقيقة الحق، وقال ابن منصور: هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلى بنعوت الربوبية، وقال محمد بن علي: هو من استوت أحواله عند المنع والاعطاء والرد والقبول {وَحَصُورًا} وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية، وقال الاسكندراني: هو المنزه عن الأكوان وما فيها {وَنَبِيّا} أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودًا {مّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظامًا للنعمة: {أنى يَكُونُ لِي غلام} والحال {قَدْ بَلَغَنِي الكبر} وهو أحد الموانع العادية {وامرأتى عَاقِرٌ} وهو مانع آخر {قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 40] حسا تقتضيه الحكمة {قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية {قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولًا به {إِلاَّ رَمْزًا} تدفع به ضيق القلب عند الحاجة، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا} بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات {وَسَبّحْ} أي نزه ربك عن الشركة في الوجود {بالعشى والإبكار} [آل عمران: 41] بالفناء والبقاء.
وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا} الاستعداد {رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} [آل عمران: 38] ممن صدق في الطلب {فَنَادَتْهُ} ملائكة القوى الروحانية {وَهُوَ قَائِمٌ} منتهض لتكميل النشأة {يُصَلّى} ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات {أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية {مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق {وَسَيّدًا} لم تملكه الشهوات النفسانية {وَحَصُورًا} أي مبالغًا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية {وَنَبِيّا} بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودًا{مّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء {قَالَ رَبّ إِنّى} أي كيف {يَكُونُ لِي غلام وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} وضعف القوى الطبيعية {وامرأتى} وهي النفس الحيوانية {عَاقِرٌ} عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية {قَالَ كذلك الله} في غرابة الشأن {يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 40] من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات، وبقي أسيرًا في سجن العادات {قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} على ذلك لأشكرك مستمطرًا زيادة نعمك التي لا منتهى لها {قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة {ثلاثة أَيَّامٍ} وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات {إِلاَّ رَمْزًا} أي قدرًا يسيرًا تدعو الضرورة إليه {واذكر رَّبَّكَ} الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية {كَثِيرًا} حيث منّ عليك بخير كثير {وَسَبّحْ} أي نزه ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر {بالعشى والإبكار} أي وقتي الصحو والمحو.
وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقًا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدًا مقدسًا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ {أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} العقل مصدقًا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الأجرام {وَسَيّدًا} لجميع أصناف القوى {وَحَصُورًا} عن مباشرة الطبيعة {وَنَبِيّا} بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظمًا في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة {قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ} ذلك {وَقَدْ بَلَغَنِي} كبر منتهى الطور {وامرأتى} وهي طبيعة الروح النفسانية {عَاقِرٌ} بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له: علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ {ثلاثة أَيَّامٍ} كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين {إِلا} بالإشارة الخفية، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سن التميز أربعون سنة انتهى وهو قريب مما ذكرته ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى.